نحن بخير
«عندما تَنتهي هذهِ الحَرْبُ
وتَسْكُتُ أصواتُها
سَوْفَ يأتي نَهارٌ
خفيفٌ كَثَوبِ السَّديمِ
سيبدو كأنَّ البِلادَ استفاقتْ
مِنَ السِّحْرِ مُنذُ قليلٍ
ونَفتَحُ أبوابَنا واجلينَ
فَيَسقطُ عُوْدُ الشِّتاءِ
الرَّماديُّ في العَتَبَاتِ» - «يوم تنتهي الحرب»، ماهر رجا
منذ عام تقريباً ونحن نسمع عن حرب غزة عبر الإعلام الذي يبث على مدار الساعة. كنا في مكان ما نعايش موت الناس هناك وحياتها، ونلتقط معهم بعض أنفاسهم حين يتكلمون عن تعبهم وألمهم.
خلال عام مضى، لم نعش الحرب، كنا نعضّ على جروحنا من شدة العجز، من إحساس كان يتراكم يومياً بسبب قلة الحيلة، فكنا نلجأ لكثير من الكلام، وكثير من تجريب المساعدة، وكثير من المبادرات لرفع الصوت أو نقله، وقد كان مرفوعاً ومنقولاً. كنا نجرب أن نشعر بأننا أحياء، ولسنا مجرد متفرّجين.
لكن، ومع توخي الدقة أكثر، كنا في لبنان نعيش جانباً من الحرب، جغرافياً شهد الجنوب اللبناني ما شهده، لكن الجزء الأكبر من البلاد ظل بمنأى، إلا في أيام معدودات، حتى صرنا إلى ما صرنا إليه اليوم. وتاريخياً، أهل لبنان يعون الحرب تماماً، فقد شهدوا الكثير منها، اجتياحاً وحصاراً وقتلاً وتدميراً.
وها هو لبنان مجدداً تحت الحرب، تحت صرخات الصواريخ التي يسمع بعضنا صوتها، وبعضنا الآخر يسأل، هل مرّ صاروخ وانفجر، فقد مرّ ولم أسمع له صوتاً! لكنه في مكان آخر جعل الأرض ترتج، وفي مكان أبعد قليلاً، في بيت «آمن» طفل خاف، وامرأة نظرت إلى زوجها بعينين خائفتين، ولسان يساعدها على ابتلاع ريقها بعد أن صرخت، ورجل يجلس حائراً لا يعرف ماذا يفعل. أما الذين ذهبوا إلى مراكز الإيواء، فحكاية أخرى، وسؤال آخر بينما غزة حاضرة في وعيهم: «هل سننزح مجدداً؟».
أمّا «الزنانة»، أو كما يسميها أهل لبنان بـ«أم كامل»، تزّن معظم اليوم، فلا تتوقف، ولا تبدو لترى بالعين المجردة، إلا لدى بعض الفضوليين الذين يقضون وقتاً من يومهم ليكملوا الصوت بالصورة. لكن الجميع يسأل، كيف عاش أهل غزة مع صوت «أم كامل» لعام كامل. فقد أصبحت من تفاصيل يومنا، ننساها أحياناً، لكنها حاضرة، فالعقل ينبهنا كل وقت إليها، فنسمعها، ونأخذ وقتاً حتى نعود ونتناساها. عام كامل وغزة تسمعها، وليس مفهوماً بعد انتهاء الحرب، كيف ستكون «الحياة» من دون صوتها.
الآن ربما نعيش الحرب، نعيش الألم الذي عاشته غزة، ورغم أن لبنان عرف الحروب سابقاً، و«استراح» نسبياً منذ حرب تموز 2006 التي استمرت لـ 33 يوماً، وبلغ عدد الشهداء فيها أكثر من 1000 مدني، إلا أنه اليوم ينام ويستيقظ على أعداد جديدة من الشهداء والجرحى، فقد بلغ عددهم اليوم 2000 شهيد، معظمهم منذ 17 أيلول الماضي.
ليست الأرقام وحدها التي تعطي شعور الحرب، بل كل أشكال الحياة التي تغيرت في لبنان، في بيروت وفي معظم محافظات لبنان، من صيدا وصولاً إلى أقصى شمال البلاد، وحتى شرقها. فصارت الاتصالات بين الناس وأحاديثها، أسئلة يوجهها خائف إلى متعب، باستثناء الأوقات التي يقدم فيها الجميع للجميع تحليلات وأفكاراً وآراء، وبثقة عالية، تشبه الشخصية اللبنانية التي تقدم نفسها في كل الميادين واثقة. ومع ذلك في هذا الوضع، الكلام مبني على ما في الناس من إيمان، وما في عقولهم من يقينيات، وعلى ما يبثه الإعلام (بحسب أي قناة تلفزيونية) والجميع مهما اختلفوا يبحثون عن أمل في هذا الظلام الذي لم يمس دامساً بعد.
■ ■ ■
نعيش الحرب الآن، ولبنان الذي أثرى أمة بأكملها، بأبنائه وأبناء البلاد الذين حلوا في عاصمته زمن الحروب في السبعينيات والثمانينيات، بما أنتجوا أدباً وموسيقى وثقافة ورومانسية، يئن اليوم تحت نقاشات جديدة، مؤلمة حين تخرج من لبنان وعن لبنان. فكأن هناك من كان ينتظر هذه اللحظة لينال من هذا البلد، وهذا ما حدث مع غزة، وهو ما يحدث مع الضفة، وهو ما ظل يحدث مع فلسطين ككل، من يوم صارت المقاومة وجهة نظر. فهؤلاء الذين إما يعيشون الحرب الآن، أو هم في بلاد أخرى، ليتهم ينتظرون الحرب حتى تنتهي، وليتهم يتركون الناس لهمومها. فقد زادت أضعافاً مضاعفة عما كانت عليه، ولعل بعض الناس باتت أكبر همومه ليس السؤال عن بيته إن ما زال واقفاً وقابلاً للسكن، بل أكبر همه ربما «فرشة» ينام عليها، وغطاء دافئاً لم يتأمن بعد لأطفاله في مركز الإيواء.
الآن فلسطين، الآن لبنان، والآن نحن في هذه البلاد التي تعيش الآلام يوماً بيوم، وحزناً بحزن، وأملاً بأمل. هذه البلاد تحتاج صوتاً يداوي أهلها، ويرفع من جراحهم راية للسماء، كي يراها العالم في كل مكان، كي تراها الشعوب التي تقضي يومها طبيبعاً، بينما حكوماتها تدعم الحرب علينا، بالفعل أو بالصمت، أو بالقول «كفراً». الآن وقت الكلام الحقيقي عن وجودنا في بلادنا، عن حقنا في البقاء آمنين في بلادنا، عن حقنا في إيقاف المذبحة المتنقّلة من مكان إلى آخر، والتي تفعل فعلها لنموت نحن ويحيا غيرنا!
■ ■ ■
منذ عام تقريباً ونحن نسمع عن حرب غزة ونرى. بعضنا له أصدقاء هناك، يكلمهم، يضحك معهم، يواسيهم، يجرب عبر الكلام مسح دمعة محبوسة في قلوبهم. أمّا الآن، فالجميع في لبنان وغزة، يحتاجون إلى شيء من المواساة، رغم المعنويات التي تصعد مع كل خبر يأتي من أقصى الجنوب، عند الحدود، لكنه ومع مضي النهار، تقل طاقته، مع أخبار أخرى «عاجلة» رغم مضي ساعات عليها، تقول عن الاحتلال كلاماً كثيراً من شأنه أن يخيف الناس المتعبة.
أخيراً وليس آخراً في هذه العجالة، بعد عام كامل في هذه المنطقة، بعضنا يعيش الحرب أو أنه تحت تأثيرها، ومع أن بعض بلادنا تعيش كأن لا شيء يعنيها، كأن الموت والحياة تفصيل ليس يعنيها وكأنه لن يأتيها، وكأن الذي نحن فيه صنع أيدينا. تلك البلاد منا، تنطق ضادنا، ونحن الذين نولد ونموت تحت تأثير الحرب، نعرف أكثر منهم ما هم فيه وعليه. ربما لم يخبرهم أحد، ربما غيبوهم، ربما صنعت بيننا وبين بعض بلادنا هوة، رسمها أحد في غرف سوداء موجودة في العالم، لئلا نكون على قلب واحد في السراء والضراء، ربما وربما… لكن، ومع ذلك، في بلادنا التي تعيش الحرب، وفي باقي بلاد الضاد، هناك من يعرف الحق والحقيقة، وعليه اليوم، مثلما كان عليه البارحة، القول والنقل، عليه الفعل، تعليم أقرانه، أبناء موطنه عن الذي يحدث في كل بلادنا منذ نحو قرن من الزمن، منذ نزل الاستعمار في ديارنا، ومنذ رحيله عن بعضها، وبقائه في بعضها بأشكال مختلفة مرصودة بسهولة تامة، منذ ذلك الوقت، وليس منذ عام كما يحاول بعض الإعلام أن يقول.
■ ■ ■
أمّا الختام، فهو البيان القادم الذي سيدلّ على ما ستؤول إليه الأمور، ومن المرجح أنه بيان الإصرار على الحياة والبقاء مهما حدث. فالمؤكد كل المؤكد أن المحتل لن يبقى حتى الأبد في مكان احتله، والدليل انظروا إلى الجنوبين.
* صحافي فلسطيني